الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم اليه من الايمان والمتمم احسانه بما أقام لهم من جلي البرهان وصلى الله على سيدنا محمد أشرف الخلق والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين ...
كتاب الله العزيز شامخ في معماره البياني وحسه المجازي وبعده التشبيهي ورصده الاستعاري وتهذيبه الكنائي وهو يعلو ولا يعلى عليه وهو ليس كسائر كلام البشر ولا أمراء البيان ، وهو يشمل فصاحة خارقة في اللفظ وفصاحته المتجلية في تركيبة لفظه التي تسيل رقة وعذوبة وهي جذابة وموزونة وهي الحق الصادع والنور الساطع فان أوجزت كانت كافية وان أكثرت كانت مذكرة وان أمرت كانت ناصحة وان حكمت كانت عادلة وان أخبرت كانت صادقة وهي سراج تستضيئ بها القلوب وبحر العلوم الواسعة والعميقة وديوان الحكم وجوهر الكلم وهي المبلغة التي لا تمل والمتجددة التي لا تبلى
وكتاب الله العزيز حار فيه أرباب العلم والبيان فما كان قليله يغنيك عن كثيره ، واعجازه مضمر ومكنون في ثنايا وبواطن اللفظ، فالله تعالى وهو العليم الخبير أحكم آياته وجعل كلماته نورا وألبسها من علمه وحكمته ثياب الجلالة وغشاها من نور الحكمة لتكون عظة ونبراسا للمتقين وتبيانا لكل العوالم الخفية والدقيقة واشارات باهرة في كل أصناف العلوم ومحركا للبواعث والهمم لترقى بالانسان نحو أسمى الغايات، وأسلوب القرآن يتفوق عن كل تجريد مجازي ويختلف اختلافا بينا عن كل أصناف الكلام وهذا ما أود طرحه في مداخلتي هذه طالبا من الله العلي القدير العون والسداد وبالله التوفيق.
فكتاب الله عز وجل يسمو عن التحليلات المجازية المطروحة في عصرنا الحاضر ، وعن كل التحليلات اللغوية أو البيانية و أنماطها المعروفة، وقد يسقط المرء في تأويل اللفظ وتحميل المعنى على ظاهره وهذا خطأ جسيم قد يوقع في التجسيم لأن في أحوال الآخرة تتغير الصفات المعهودة وتتبدل الأرض غير الأرض والسماوات فالزمان النسبي أصبح خلودا سرمديا و المكان المحدود أصبح لا نهائي والمادة الفانية والحجب التي كانت تحول دون ادراك الحقيقة زالتا (فبصرك اليوم حديد) الآية . فالحقيقة أصبحت شاخصة أمامنا ، فالله عز وجل قال لموسى عليه السلام (لن تراني ) الآية ، ولم يقل له لا ارى أو لا تجوز رؤيتي بل فال له سبحانه لن تراني في دار الدنيا لضعفك وعجزك ، بينما في الآخرة فالرؤية ممكنة كما جاء في حديث الرؤية ، ففي المتشابه لا يمكن أن يحمل المعنى على ظاهره لأن الله عز وجل منزه عن كل نقص أو عيب جال في خاطرنا في دار الدنيا فهو الأول والآخر و الظاهر والباطن ..الأول بلا بداية والآ خر بلا نهاية وهو المحيط و الخير الجامع والنور الساطع وهو الحقيقة الجامعة لا يعتريه نقص ولا زوال ولا يشمله مكان ولا زمان فهو الذي خلقهما بقدرته ..وهو حي قيوم بذاته وصفاته وأسماءه ..عظيم الملك والملكوت ..كان دوما وأبدا ولا مكان ولا يحيط به شيء ولا يشمله شيء تعظم عزه و شانه سبحانه وتعالى عما يصفون.. وهو شديد المحال ..تحير فيه العقول والمدارك وتتعطل الهمم ..واقتضى امره ألا يحيطوا به علما فكيفما كان تصورك او خيالك او فكرك عن الله ، فالله تعالى بخلاف ذلك ..والله تعالى أكبر من أي بعد تقديري حسمه العقل وأمره سبحانه اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وهو العزيز حجب نفسه في سرادقات عزه وليس كمثله شيء ..ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو طاهر متطهر قدوس..
و المتعمق في الأسلوب القرآني ينكشف له أن من خصائصه التجريد المطلق والتنزيه الكامل، والتشبيه القرآني متجانس كل التجانس بأ سلوب معجز بما يحقق العمق الفني بكل أبعاده كالتشبيه الحسي لتقريب المعنى للمتلقي، وهذه التشبيهات هي من الكون والطبيعة وآيه في خلقه، والأسلوب القرآني يسمو على غيره من كلام البشر لأنه سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علما ، لذا كان المتشابه حمال وجوه في تأويله ، وهناك من الاشارات المجازية ما يغني المرء لدرء التأويلات الخاطئة..كقوله تعالى في متشابهه باسلوب مجازي (يوم يكشف عن ساق ) الآية .فهنا لا يمكن تحميل اللفظ على ظاهره وهذا من أحوال الآخرة أو كقوله تعالى ( وجاء ربك ) الآية .
أو كقوله تعالى ( الرحمان على العرش استوى ) الآية .فالفعل حقيقي ولكن لعجز عقولنا وقصرها لا يمكن ادراك حقيقتها وماهيتها
فكلمة جاء في الآية (وجاء ربك ) الآية.. أمرها معلوم وهذا فعل حقيقي بكيفية لا نعلمها والايمان بها واجب والله تعالى لا يحيط به مكان ولا زمان ومستحيل عليه التنقل من مكان الى مكان وهذا في حدود علمنا الدنيوي وهو سبحانه وتعالى خالق المكان والزمان بعلمه وقدرته لذلك فكلمة جاء لها معنى مضمر ويتعلق بأحوال الآخرة.
لذا فكتاب الله له من خصائص التجريد المطلق والتنزيه الكامل ما لا يمكن الاحاطة به لأن الله تعالى أقام الحجة حيث أحكم آياته وهو العليم الحكيم
وكلامه سبحانه منزه عن كل نقص أو عيب ولا يأتيه الباطل ، وبيان الله تعالى ليس بعده بيان، وهو الذي له أثر في القلب ووقع شديد في السمع وله قوة نفاذ عجيبة في النفس ، وفيه من الاستعارات الخفية والتشبيهات التي فيها دقة في التصوير لتفعيل الحدس وشحذ المخيلة لترتقي بايمانها وكشوفها وفق سنن ماضية في الخلق ، ونحن لم نحط بعد بكل أسرار الكلمة (ولما ياتكم تاويله) الآية
لذا فالايمان بالغيب هو النبراس الأول للمتقين والله هو العليم الخبير الذي أحكم آياته وجعل كلماته نورا وألبسها من علمه وحكمته ثياب الجلالة وغشاها بنور الحكمة لتكون هدى للمتقين وتكون تبيانا لكل العوالم المحيطة بالانسان واشارات محفزة لاستبيان العلوم ودعوة الى سعة الأفق وعدم الجمود فسبحان من قال له الملائكة الكرام عليهم السلام ( سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا) الآية ..وسبحان من أعجز الثقلين ببيانه البديع وحجته الدامغةعلى أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا